من “سيدة الزار” إلى قائدة الفرقة: مديحة أم سامح وإحياء الفن الشعبي المصري

في قلب القاهرة، وتحديدًا في مركز “مكان” للفنون التراثية، تنبعث من جديد نغمة قديمة، تحمل في طياتها عبق التاريخ وأصالة الروح. إنها نغمة الزار، الفن الشعبي المصري العريق، الذي أعادت فرقة “مزاهر” إحياءه في عروض أسبوعية تمزج بين الغناء النوبي، الرقص التقليدي، والعزف على آلات مصرية أصيلة، لتُقدمه بروح معاصرة تنبض بالحياة.
الولادة من جديد: تأسيس “مزاهر”
تأسست فرقة “مزاهر” عام 2002، بدعم من الدكتور أحمد المغربي، مؤسس ومدير مركز “مكان”. وهي اليوم الفرقة الوحيدة في مصر التي تُقدم عروضًا منتظمة لفن الزار، داخل البلاد وخارجها، مع الحفاظ على أصالة وروح هذا الفن، الذي طالما اُختزل في الدراما بوصفه طقسًا لطرد الأرواح الشريرة.
أم سامح.. صوت من أعماق التراث
تقود الفرقة مديحة – أم سامح، المغنية الرئيسية والوجه الأبرز في المشهد الشعبي المصري المعاصر. بدأت مديحة رحلتها مع الفلكلور في سن العاشرة، حين ورثت هذا الفن عن أسرتها، وتربت في أجواء تغمرها الأغاني الشعبية والطقوس الروحانية. تؤمن مديحة أن الزار ليس محفوظًا في نوتات موسيقية، بل يُولد في لحظته، من خلال الارتجال التام والتفاعل الحي مع الجمهور، مما يمنح كل عرض طابعه الفريد.
كسر الصورة النمطية
تسعى فرقة “مزاهر” إلى تغيير النظرة السائدة تجاه فن الزار، حيث يظهر غالبًا في السينما والدراما كطقس غامض أو مرعب. وعلى العكس، تؤكد مديحة أن الزار هو تعبير إنساني صادق عن الألم، الفرح، الحب، الحنين، وكل ما يحمله القلب من مشاعر. إنه نوع من السماع الشعبي، يخلق مساحة من التطهر العاطفي والروحي.
التحدي الأكبر: البقاء
رغم نجاحات “مزاهر”، يواجه فن الزار تحديًا مصيريًا: خطر الاندثار. معظم أعضاء الفرقة من كبار السن، وتنظر مديحة بحزن إلى واقع عدم اهتمام الأجيال الجديدة بهذا الفن. تقول:
“مش عايزة أعلّمه لحد من أولادي. الفن ده صعب، ومفيش حد بيحبه زيّنا”.
لكنها لا تفقد الأمل. فما دام هناك جمهور يتفاعل ويتأثر، فما زال هناك حياة تُمنح لهذا الفن.
الرسالة: التراث حيّ
فرقة “مزاهر” ليست فقط فرقة موسيقية، بل هي رسالة ثقافية وإنسانية. عبر كل عرض، تثبت مديحة ورفاقها أن التراث الشعبي ليس شيئًا يجب حفظه في متحف، بل هو كيان حيّ، يتنفس ويُجدد ذاته من خلال الأداء والتجربة والمشاركة.
بشغفها العميق، أصبحت مديحة أم سامح رمزًا نادرًا للمرأة المصرية التي تحمل إرثها على كتفيها، وتُعيد تقديمه للعالم بحب وإبداع. ومن خلالها، يتجدد السؤال:
هل يمكن للفن الشعبي أن ينجو من النسيان ويصبح لغة مشتركة بين الماضي والمستقبل؟