شيخ السُمِّيعة: متقال قناوي وحكاية الطرب الصعيدي في زمن الكاسيت

في ذاكرة الغناء الشعبي المصري، تقف بعض الأسماء كنُصبٍ حي للتراث، ومن بين تلك الأسماء يتصدر متقال قناوي المشهد كأحد الأصوات النادرة التي خرجت من قلب الصعيد لتصل إلى كل بيت مصري. فصوته الجهوري، ولهجته الصعيدية الأصيلة، ومواضيعه المستمدة من قلب الريف، جعلته رمزًا للغناء الشعبي الجنوبي.
النشأة والبدايات


ولد متقال قناوي في محافظة قنا جنوب مصر، في بيئة زاخرة بالحكايات الشعبية والسير والملاحم والمواويل. نشأ في مجتمع يُقدّس “الراوي”، ويحتفل بـ”السيرة الهلالية”، وكان لهذا تأثير مباشر على اختياراته الغنائية لاحقًا.
ورث متقال عن والده حب الغناء، وتعلم منه الأوزان والإيقاعات، خاصة تلك التي ترافق السيرة الهلالية. وبدأ يحيي الأفراح والمناسبات الشعبية، لينتقل بعدها تدريجيًا إلى الانتشار الأوسع.

أصول متقال الفنية: الصعيد والجذور الصوتية
ينتمي متقال إلى مدرسة الغناء الصعيدي، وهي مدرسة قائمة على:
- الموال الطويل المليء بالتشبيهات والعِبَر.
- الإيقاع القوي (غالبًا الطبل البلدي والرق).
- الحكي الصوتي، حيث يتحول الغناء لسرد شعبي، غالبًا ما يكون فيه حكمة أو عبرة.
أشهر من تأثر بهم كان الشيخ أحمد برين، والشيخ زين، لكنه تميز عنهم بـ”الدُعابة الصوتية” و”المزاج الراقص” حتى وهو يغني المواويل الحزينة.
اللون الغنائي الذي قدّمه


لم يكن متقال مغنيًا شعبيًا تقليديًا، بل قدّم مزيجًا من:
- المواويل الصعيدية
- السيرة الهلالية
- الأغاني الارتجالية
- الربابة كآلة رئيسية
وهو من القلائل الذين حافظوا على الهوية الصعيدية في الغناء دون أي تجميل أو “تمدين” لهجته، مما جعله صادقًا ومحببًا إلى قلوب الناس.
الانطلاقة من الهامش: شريط كاسيت ولقب “الشيخ”
متقال بدأ الغناء في الأفراح الشعبية، وكان يغني أحيانًا بشكل شبه ارتجالي. لكن أول شرائطه التي حققت انتشارًا كان بها الأغنية الشهيرة:
“اسمع يا عبد الودود، لا تقول طُرشي ولا فسيخ”
(أغنية فيها سخرية من الواقع الاجتماعي، بلغة شعبية جريئة)
هنا بدأ الجمهور يردد كلماته، وبدأت شركات الإنتاج تلتفت له، وأطلقوا عليه لقب “الشيخ” لتكريس طابع شعبي صوفي صعيدي له هيبة و”مِزاج”.
الشهرة والتحول للمجال الرسمي


رغم شعبيته التي جاءت من الشارع والأسواق، تمت دعوته في فترات لاحقة إلى إحياء حفلات في قصور الثقافة، وفي بعض المناسبات التي حضرها الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وغنى في احتفالات أكتوبر وسط دهشة البعض من صعود فنان شعبي لمقاعد الاحتفالات الرسمية.
لكن هذه الخطوة كانت سلاحًا ذا حدين؛ فمن ناحية وسعت شهرته، ومن ناحية أخرى أبعدته عن بداياته، وفرضت عليه نوعًا من “الترويض الفني”.
🎵 أشهر أغاني متقال قناوي
1. ركبوا الجمال يا متقال
من أشهر الأغاني المرتبطة باسمه، وغالبًا ما تُستخدم للتعبير عن الرحيل أو التنقل في الحياة الصعيدية، وهي أغنية احتفالية تميل إلى الطابع الحركي.
2. يابوي وصاني
موال حزين عاطفي يتميز بكلمات مؤثرة، يحكي عن وصايا الأب لابنه، ويعكس القيم الصعيدية الأصيلة.
3. جمال الصعيد
أغنية تمدح الصعيد وأهله وطبيعته وعاداته، وغالبًا ما تُغنى في مناسبات وطنية أو احتفالية لتعزيز الهوية الصعيدية.
4. مين يقدر يقول للواحد أعمل إيه
واحدة من الأغاني اللي بتعبر عن الحيرة والصراع الداخلي، وتحمل في طياتها نوع من الحكمة الشعبية.
5. أبو زيد الهلالي
أغنية مأخوذة من السيرة الهلالية، وهي من أشهر ما غناه متقال، حيث كان يقدم هذه السيرة بأسلوب الراوي الصعيدي على الربابة.
6. صعيدي وخطير
أغنية ذات طابع فكاهي وتمجيدي، تمزج بين الفخر بالصعيد وبين حس فكاهي شعبي محبب.
7. أنا ابن أبويا وجدودي
أغنية تتفاخر بالأصل والعائلة والجذور، من الأغاني اللي ارتبطت بالكرامة والاعتزاز بالنفس.
متقال في مواجهة التهكم والرقابة


كثير من الناس ربطوا متقال بـ “الفكاهة” و”السطحية”، وبدأ الإعلام يضعه في خانة “المغني الشعبي الخفيف” غير القادر على الوقوف بجانب أسماء مثل محمد رشدي أو عبد المطلب.
لكن من يعرف تراثه الحقيقي يعرف أن:
- متقال كان عنده قدرة على صياغة الجملة الشعبية في قالب موسيقي بسيط وجذاب.
- بعض أغانيه كانت رسائل اجتماعية سياسية مبطنة.
- كان يغني للناس بلغتهم.. بكل صدق ووضوح.
الإرث: ما الذي تركه لنا متقال؟
- عشرات المواويل والأغاني التي لا تزال تُذاع في القرى حتى اليوم.
- تأثير كبير على مطربي “المهرجانات الشعبية” الجدد، مثل عفروتو وعنبة وشاكوش، الذين اقتبسوا نفس نبرة الغناء واللزمات.
- درس في أن الفن الشعبي لا يُحتكر، بل يُولد من الناس ويعود إليهم.
متقال.. مزمار صعيدي لا ينكسر
متقال قناوي لم يكن فقط مطربًا، بل كان ذاكرة صوتية للجنوب المصري، غنّى للحب والفقر والسخرية والوجع، وكان صوته يلمع في السوق أكثر مما يلمع في التلفزيون.
قد لا يُدرّس في معاهد الموسيقى، لكن تسجيلاته القديمة تظل ترددها أفراح الصعيد، وسيارات الميكروباص، وقهاوي العُمّال.. حيث الفن لا يُصفَّق له، بل يُعاش.