الرقص الشرقي: من الطقوس القديمة إلى المسارح العالمية

الرقص الشرقي ليس مجرد حركات جسدية أو استعراضات تُقدَّم في الحفلات والمناسبات، بل هو فن شعبي أصيل يحمل في طياته تاريخًا طويلًا من التعبير الجسدي، والانفعال العاطفي، والهوية الثقافية. وُلد من رحم الحضارات القديمة في الشرق الأوسط، لينمو ويتطور حتى أصبح اليوم أحد أكثر أشكال الرقص شهرة عالميًا، وأحد أبرز رموز الفن النسائي العربي.

تعود أصول الرقص الشرقي إلى العصور الفرعونية القديمة، حيث تظهر جداريات المعابد المصريّة نساءً يرقصن في طقوس دينية واحتفالية. كما ارتبط الرقص قديماً بالخصوبة، والولادة، والطقوس الاجتماعية، ما يعكس ارتباطه الفطري بجسد المرأة وقوتها التعبيرية.

على مر العصور، تطوّر هذا الفن واندمج مع ثقافات الشعوب التي مرّت على المنطقة، من العثمانيين إلى المماليك، ليأخذ أشكالًا مختلفة، لكنه حافظ على جوهره: التعبير الجسدي الحر والأنثوي.

تُعد مصر واحدة من أهم أوطان الرقص الشرقي، بل ويُنظر إليها باعتبارها الراعية الحقيقية لتطور هذا الفن وتحويله إلى مدرسة قائمة بذاتها. منذ بدايات القرن العشرين، أصبح الرقص الشرقي في مصر أكثر من مجرد فن شعبي؛ فقد تحول إلى عنصر أساسي في المسرح والسينما والمجتمع الفني.

ظهر جيل من الراقصات المصريات تركن بصمات لا تُنسى، وصرن نجمات على الشاشات ووجوهًا معروفة دوليًا، بفضل أسلوبهن الفريد الذي يجمع بين الرشاقة والاحترافية والتعبير الفني.

  • تحية كاريوكا: واحدة من أهم رموز الرقص الشرقي في القرن العشرين. امتازت بأسلوبها المسرحي الذي يدمج بين الرقص والدراما، وشاركت في العديد من الأفلام التي ساهمت في نشر الرقص الشرقي عالميًا.
  • سامية جمال: المعروفة بجمالها ورشاقتها، أدخلت حركات الباليه إلى الرقص الشرقي، مما منحها طابعًا خاصًا ومميزًا. رقصت أمام جمهور عالمي، بل وشاركت في أفلام هوليوودية.
  • نعيمة عاكف: لم تكن راقصة فقط، بل فنانة استعراضية متكاملة؛ مغنية، ممثلة، وبهلوانية. قدّمت عروضًا مليئة بالحيوية والطاقة، وجذبت الأضواء في مهرجانات دولية.
  • سهير زكي، نجوى فؤاد، فيفي عبده، دينا: أسماء متتالية تمثل مراحل تطور هذا الفن في مصر، من الكلاسيكية إلى التحديث، وكل واحدة منهن أضافت شيئًا خاصًا للمشهد.
  • الحركات الدائرية والناعمة: تركّز على تحريك الخصر والبطن والكتفين بطريقة متناغمة.
  • التعبير العاطفي: الراقصة لا تؤدي فقط، بل تعبّر بمشاعرها وملامحها وجسدها عن الموسيقى.
  • الارتجال: من العناصر الأساسية في الرقص الشرقي، حيث تعتمد الراقصة على الإحساس الداخلي والإبداع اللحظي في التفاعل مع الموسيقى.
  • الأزياء: تتميز بكونها زاهية، أنثوية، وغنية بالتفاصيل والخرزات التي تُبرز حركة الجسد.

الموسيقى الشرقية الغنية بالإيقاعات الشرقية (مثل المقسوم، الواحدة ونص، السامبا الشرقي) تُعد العمود الفقري لهذا الفن. يتفاعل الجسد مع النغمة والصمت، في رقصة تتنفس فيها الموسيقى من خلال الحركة.

رغم أن الرقص الشرقي فن شعبي عميق، إلا أنه طالما كان محطّ جدل مجتمعي. ففي حين يعتبره البعض فنًا راقيًا يحمل جماليات الجسد والروح، ينظر إليه آخرون بنظرة تحفّظ بسبب ارتباطه ببعض الصور النمطية أو سوء الاستخدام التجاري له.

ومع ذلك، تشهد السنوات الأخيرة محاولات لإعادة تقديم الرقص الشرقي كفن محترم ومتكامل، من خلال تدريسه أكاديميًا، وتنظيم مهرجانات دولية خاصة به، وظهور راقصات محترفات يمثلن هذا الفن على المسارح العالمية بفخر.

الرقص الشرقي أصبح اليوم فنًا عالميًا يُمارس ويُدرّس في عشرات الدول، من اليابان حتى البرازيل. وتُقام له ورش عمل ومهرجانات دولية، ويُدرّب كفن يساعد على تقوية عضلات الجسد، وتحسين المرونة، وزيادة الثقة بالنفس.

الرقص الشرقي أكثر من مجرد رقصة؛ هو لغة من لغات الجسد العربي، تحكي بها النساء تاريخًا طويلًا من الفن والحياة والمقاومة الذاتية. وبين الجدل والجمال، يبقى الرقص الشرقي حيًا، يدور في الدوائر ذاتها التي لطالما احتوت الحلم والحرية والإبداع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى